الثلاثاء، 27 مارس 2012

أفرارا من قدر الله...؟! (فقه وفوائد)...

اخرج الامام البخاري -رحمه الله-في{كتاب الطب}في( باب ما يذكر في الطاعون):
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ-رضي الله عنهما- : أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا كَانَ بِسَرْغَ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الْأَجْنَادِ ، أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ ، وَأَصْحَابُهُ ؛ فَأَخْبَرُوهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِأَرْضِ الشَّأْمِ ،
 قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : فَقَالَ عُمَرُ : ادْعُ لِي الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ ، فَدَعَاهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّأْمِ ،  فَاخْتَلَفُوا ،
 فَقَالَ بَعْضُهُمْ : قَدْ خَرَجْتَ لِأَمْرٍ وَلَا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ ،
 وَقَالَ بَعْضُهُمْ : مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ،
 فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي ،
 ثُمَّ قَالَ : ادْعُوا لِي الْأَنْصَارَ؛
 فَدَعَوْتُهُمْ ؛ فَاسْتَشَارَهُمْ ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ ،
 وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلَافِهِمْ ،
 فَقَالَ : ارْتَفِعُوا عَنِّي ،
 ثُمَّ قَالَ : ادْعُ لِي مَنْ كَانَ هَا هُنَا مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ   الْفَتْحِ ؛
 فَدَعَوْتُهُمْ ؛ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلَانِ ،
 فَقَالُوا : نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلَا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ ، فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ : إِنِّي مُصَبِّحٌ عَلَى ظَهْرٍ فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ : أَفِرَارًا مِنْ قَدَرِ اللَّهِ !
فَقَالَ عُمَرُ : لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ ؛
 نَعَمْ ، نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ ؛ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ إِحْدَاهُمَا خَصِبَةٌ وَالْأُخْرَى جَدْبَةٌ ، أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ الْخَصْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدْبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ ،
 قَالَ : فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَكَانَ مُتَغَيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ ، فَقَالَ : إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، يَقُولُ : "إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ
 قَالَ : فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ ، ثُمَّ انْصَرَفَ .
قال الحافظ ابن حجر-رحمه الله- في "الفتح" عند شرحه:
"قوله : ( فقال أبو عبيدة ) وهو إذ ذاك أمير الشام ( أفرارا من قدر الله ) ؟ أي: أترجع فرارا من قدر الله ؟ وفي رواية هشام بن سعد " وقالت طائفة منهم أبو عبيدة : أمن الموت نفر ؟ إنما نحن بقدر ، لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا " . 

قوله : ( فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة ) أي: لعاقبته ، أو لكان أولى منك بذلك ، أو لم أتعجب منه ، ولكني أتعجب منك مع علمك وفضلك كيف تقول هذا ؟ ويحتمل أن يكون المحذوف : لأدبته ، أو هي للتمني فلا يحتاج إلى جواب ، والمعنى : أن غيرك ممن لا فهم له إذا قال ذلك يعذر .

 وقد بين سبب ذلك بقوله (وكان عمر يكره خلافه )، أي مخالفته . 

قوله : ( نعم ، نفر من قدر الله إلى قدر الله ) في رواية هشام بن سعد " إن تقدمنا فبقدر الله ، وإن تأخرنا فبقدر الله " وأطلق عليه فرارا لشبهه به في الصورة وإن كان ليس فراراً شرعيا . والمراد أن هجوم المرء على ما يهلكه منهي عنه ؛ ولو فعل لكان من قدر الله ، وتجنبه مايؤذيه مشروع وقد يقدر الله وقوعه فيما فر منه؛  فلو فعله أو تركه لكان من قدر الله ، فهما مقامان :

 مقام التوكل ، 
ومقام التمسك بالأسباب كما سيأتي تقريره .
ومحصل قول عمر : " نفر من قدر الله إلى قدر الله " أنه أراد أنه لم يفر من قدر الله حقيقة ، وذلك أن الذي فر منه أمر خاف على نفسه منه فلم يهجم عليه ، والذي فر إليه أمر لا يخاف على نفسه منه إلا الأمر الذي لا بد من وقوعه سواء كان ظاعنا أو مقيما . 
قوله : ( له عدوتان ) بضم العين المهملة وبكسرها أيضا وسكون الدال المهملة : تثنية عدوة ، وهو المكان المرتفع من الوادي ، وهو شاطئه ".

ثم قال -رحمه الله-:
" وفي قصة عمر من الفوائد
مشروعية المناظرة ،
 والاستشارة في النوازل ، وفي الأحكام ،
 وأن الاختلاف لا يوجب حكما ، وأن الاتفاق هو الذي يوجبه ،
 وأن الرجوع عند الاختلاف إلى النص ،
وأن النص يسمى علما ،
 وأن الأمور كلها تجري بقدر الله وعلمه ،
 وأن العالم قد يكون عنده ما لا يكون عند غيره ممن هو أعلم منه .
 وفيه: وجوب العمل بخبر الواحد ، وهو من أقوى الأدلة على ذلك ، لأن ذلك كان باتفاق أهل الحل والعقد من الصحابة فقبلوه من عبد الرحمن بن عوف ولم يطلبوا معه مقويا .
 وفيه: الترجيح بالأكثر عددا والأكثر تجربة لرجوع عمر لقول مشيخة قريش مع ما انضم إليهم ممن وافق رأيهم من المهاجرين والأنصار ؛ فإن مجموع ذلك أكثر من عدد من خالفه من كل من المهاجرين والأنصار ، ووازن ما عند الذين خالفوا ذلك من مزيد الفضل في العلم والدين ما عند المشيخة من السن والتجارب ؛ فلما تعادلوا من هذه الحيثية رجح بالكثرة ، ووافق اجتهاده النص ، فلذلك حمد الله - تعالى - على توفيقه لذلك .
 وفيه: تفقد الإمام أحوال رعيته لما فيه من إزالة ظلم المظلوم وكشف كربة المكروب، وردع أهل الفساد وإظهار الشرائع والشعائر وتنزيل الناس منازلهم ".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...