الخميس، 29 مارس 2012

الفوائد والدرر المستفادة من خطبة أمير المؤمنين عمر-رضي الله عنه-

اخرج الامام البخاري -رحمه الله-في كتاب {الحدود} من "صحيحه" عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كنت أقرئ رجالا من المهاجرين منهم عبد الرحمن بن عوف فبينما أنا في منزله بمنى وهو عند عمر بن الخطاب في آخر حجة حجها إذ رجع إلي عبد الرحمن فقال: لو رأيت رجلا أتى أمير المؤمنين اليوم فقال: يا أمير المؤمنين هل لك في فلان يقول لو قد مات عمر لقد بايعت فلانا ؛فوالله ما كانت بيعة أبي بكر إلا فلتة فتمت.
 فغضب عمر ثم قال :إني إن شاء الله لقائم العشية في الناس فمحذرهم هؤلاء الذين يريدون أن يغصبوهم أمورهم.
 قال عبد الرحمن: فقلت :يا أمير المؤمنين لا تفعل، فإن الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم؛ فإنهم هم الذين يغلبون على قربك حين تقوم في الناس وأنا أخشى أن تقوم فتقول مقالة يطيرها عنك كل مطير وأن لا يعوها وأن لا يضعوها على مواضعها؛ فأمهل حتى تقدم المدينة فإنها دار الهجرة والسنة فتخلص بأهل الفقه وأشراف الناس فتقول ما قلت متمكنا فيعي أهل العلم مقالتك ويضعونها على مواضعها.
 فقال عمر: أما والله إن شاء الله لأقومن بذلك أول مقام أقومه بالمدينة.
  قال ابن عباس: فقدمنا المدينة في عقب ذي الحجة فلما كان يوم الجمعة عجلت الرواح حين زاغت الشمس حتى أجد سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل جالسا إلى ركن المنبر فجلست حوله تمس ركبتي ركبته فلم أنشب أن خرج عمر بن الخطاب فلما رأيته مقبلا قلت لسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل: ليقولن العشية مقالة لم يقلها منذ استخلف فأنكر علي وقال: ما عسيت أن يقول ما لم يقل قبله.
 فجلس عمر على المنبر فلما سكت المؤذنون قام فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال أما بعد :فإني قائل لكم مقالة قد قدر لي أن أقولها لا أدري لعلها بين يدي أجلي فمن عقلها ووعاها فليحدث بها حيث انتهت به راحلته ومن خشي أن لا يعقلها فلا أحل لأحد أن يكذب علي ؛ 
إن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق وأنزل عليه الكتاب فكان مما أنزل الله آية الرجم فقرأناها وعقلناها ووعيناها رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل والله ما نجد آية الرجم في كتاب الله فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله والرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال والنساء إذا قامت البينة أو كان الحبل أو الاعتراف،
 ثم إنا كنا نقرأ فيما نقرأ من كتاب الله :أن لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم أن ترغبوا عن آبائكم أو إن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم . 
ألا ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" لا تطروني كما أطري عيسى ابن مريم وقولوا عبد الله ورسوله"،
 ثم إنه بلغني أن قائلا منكم يقول: والله لو قد مات عمر بايعت فلانا ؛ فلا يغترن امرؤ أن يقول إنما كانت بيعة أبي بكر فلتة وتمت ، ألا وإنها قد كانت كذلك ، ولكن الله وقى شرها ، وليس منكم من تقطع الأعناق إليه مثل أبي بكر؛ 
  من بايع رجلا عن غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ، 
وإنه قد كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه وسلم: أن الأنصار خالفونا واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما ، واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر؛
  فقلت لأبي بكر: يا أبا بكر انطلق بنا إلى إخواننا هؤلاء من الأنصار،
  فانطلقنا نريدهم؛ فلما دنونا منهم لقينا منهم رجلان صالحان فذكرا ما تمالأ عليه القوم، فقالا : أين تريدون يا معشر المهاجرين،
  فقلنا: نريد إخواننا هؤلاء من الأنصار،
  فقالا: لا عليكم أن لا تقربوهم اقضوا أمركم ؛
 فقلت: والله لنأتينهم،
 فانطلقنا حتى أتيناهم في سقيفة بني ساعدة، فإذا رجل مزمل بين ظهرانيهم،
 فقلت : من هذا؟
 فقالوا :هذا سعد بن عبادة ،
  فقلت :ما له ؟
قالوا :يوعك؛
 فلما جلسنا قليلا ، تشهد خطيبهم فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال: أما بعد فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام وأنتم معشر المهاجرين رهط وقد دفت دافة من قومكم فإذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا وأن يحضنونا من الأمر،
 فلما سكت أردت أن أتكلم وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أريد أن أقدمها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد فلما أردت أن أتكلم ، قال أبو بكر: على رسلك فكرهت أن أغضبه؛
 فتكلم أبو بكر فكان هو أحلم مني وأوقر والله ما ترك من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قال في بديهته مثلها أو أفضل منها حتى سكت،
  فقال: ما ذكرتم فيكم من خير فأنتم له أهل ولن يعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش هم أوسط العرب نسبا ودارا وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيهما شئتم فأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح ، وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها ، كان والله أن أقدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر اللهم إلا أن تسول إلي نفسي عند الموت شيئا لا أجده الآن،
 فقال قائل من الأنصار: أنا جذيلها المحكك وعذيقها المرجب منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش،
  فكثر اللغط وارتفعت الأصوات حتى فرقت من الاختلاف،
 فقلت: ابسط يدك يا أبا بكر فبسط يده فبايعته وبايعه المهاجرون ثم بايعته الأنصار ونزونا على سعد بن عبادة،
  فقال قائل منهم: قتلتم سعد بن عبادة،
  فقلت: قتل الله سعد بن عبادة،
  قال عمر: وإنا والله ما وجدنا فيما حضرنا من أمر أقوى من مبايعة أبي بكر خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة أن يبايعوا رجلا منهم بعدنا؛ فإما بايعناهم على ما لا نرضى ،وإما نخالفهم فيكون فساد؛
 فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا.
قال الحافظ -رحمه الله-في "الفتح" عند شرحه:
" قوله : ( في آخر حجة حجها ) يعني عمر ، كان ذلك سنة ثلاث وعشرين .

قوله : ( يجمع رعاع الناس وغوغاءهم ) الرعاع بفتح الراء وبمهملتين الجهلة الرذلاء ، وقيل الشباب منهم والغوغاء بمعجمتين بينهما واو ساكنة ، أصله صغار الجراد حين يبدأ في الطيران ، ويطلق على السفلة المسرعين إلى الشر .

قوله : ( يغلبون على قربك ) بضم القاف وسكون الراء ثم موحدة أي المكان الذي يقرب منك ، ووقع في رواية الكشميهني وأبي زيد المروزي بكسر القاف وبالنون وهو خطأ ، وفي رواية ابن وهب عن مالك : " على مجلسك إذا قمت في الناس " .

قوله : ( يطيرها ) بضم أوله من أطار الشيء إذا أطلقه ، وللسرخسي : " يطيرها " بفتح أوله أي يحملونها على غير وجهها ، ومثله لابن وهب ، وقال يطيرنها أولئك ولا يعونها ، أي لا يعرفون المراد بها .

قوله : ( فتخلص ) بضم اللام بعدها مهملة أي تصل .

قوله : ( لأقومن ) في رواية مالك : " فقال لئن قدمت المدينة صالحا لأكلمن الناس بها " .

قوله : ( ليقولن العشية مقالة ) أي عمر .

قوله : ( لم يقلها منذ استخلف ) في رواية مالك : " لم يقلها أحد قط قبله " .

قوله : ( ما عسيت ) في رواية الإسماعيلي : " ما عسى " .

قوله :
( أن يقول ما لم يقل قبله ) زاد سفيان : " فغضب سعيد وقال ما عسيت " ، قيل أراد ابن عباس أن ينبه سعيدا معتمدا على ما أخبره به عبد الرحمن ليكون على يقظة فيلقي باله لما يقوله عمر فلم يقع ذلك من سعيد موقعا بل أنكره ، لأنه لم يعلم بما سبق لعمر وعلى بناء أن الأمور استقرت .

قوله : ( لا أدري لعلها بين يدي أجلي ) أي بقرب موتي ، وهو من الأمور التي جرت على لسان عمر فوقعت كما قال ، ووقع في رواية أبي معشر المشار إليها قبل ما يؤخذ منه سبب ذلك وأن عمر قال في خطبته هذه : " رأيت رؤياي وما ذاك إلا عند قرب أجلي ، رأيت كأن ديكا نقرني " ، وفي مرسل سعيد بن المسيب في الموطإ : " أن عمر لما صدر من الحج دعا الله أن يقبضه إليه غير مضيع ولا مفرط " ، وقال في آخر القصة : " فما انسلخ ذو الحجة حتى قتل عمر " .

....


قوله : ( فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ) أي في الآية المذكورة التي نسخت تلاوتها وبقي حكمها ، وقد وقع ما خشيه عمر أيضا فأنكر الرجم طائفة من الخوارج أو معظمهم وبعض المعتزلة ، ويحتمل أن يكون استند في ذلك إلى توقيف ، وقد أخرج عبد الرزاق والطبري من وجه آخر عن ابن عباس أن عمر قال : " سيجيء قوم يكذبون بالرجم " الحديث .
ووقع في رواية سعيد بن إبراهيم عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة في حديث عمر عند النسائي : " وإن ناسا يقولون ما بال الرجم وإنما في كتاب الله الجلد ، ألا قد رجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ، وفيه إشارة إلى أن عمر استحضر أن ناسا قالوا ذلك فرد عليهم ، وفي الموطإ عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب عن عمر : " إياكم أن تهلكوا عن آية الرجم أن يقول قائل لا أجد حدين في كتاب الله ، فقد رجم " .
قوله : ( والرجم في كتاب الله حق ) أي في قوله تعالى : أو يجعل الله لهن سبيلا فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المراد به رجم الثيب وجلد البكر كما تقدم التنبيه عليه في قصة العسيف قريبا .

قوله : ( كما أطري عيسى ) في رواية سفيان : " كما أطرت النصارى عيسى " .
قوله : ( وقولوا عبد الله ) في رواية مالك : " فإنما أنا عبد الله فقولوا " ، ..
وقال ابن التين : معنى قوله : " لا تطروني " لا تمدحوني كمدح النصارى ، حتى غلا بعضهم في عيسى فجعله إلها مع الله ، وبعضهم ادعى أنه هو الله ، وبعضهم ابن الله ، ثم أردف النهي بقوله : " أنا عبد الله " ، ...

...
ومناسبة إيراد عمر قصة الرجم والزجر عن الرغبة عن الآباء للقصة التي خطب بسببها وهي قول القائل : " لو مات عمر لبايعت فلانا " أنه أشار بقصة الرجم إلى زجر من يقول لا أعمل في الأحكام الشرعية إلا بما وجدته في القرآن ، وليس في القرآن تصريح باشتراط التشاور إذا مات الخليفة ، بل إنما يؤخذ ذلك من جهة السنة كما أن الرجم ليس فيما يتلى من القرآن وهو مأخوذ من طريق السنة ، وأما الزجر عن الرغبة عن الآباء فكأنه أشار إلى أن الخليفة يتنزل للرعية منزلة الأب فلا يجوز لهم أن يرغبوا إلى غيره بل يجب عليهم طاعته بشرطها كما تجب طاعة الأب ، هذا الذي ظهر لي من المناسبة ، والعلم عند الله تعالى ". 
ثم قال -رحمه الله-:
"وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما تقدم : أخذ العلم عن أهله وإن صغرت سن المأخوذ عنه عن الآخذ ، وكذا لو نقص قدره عن قدره .
وفيه: التنبيه على أن العلم لا يودع عند غير أهله ، ولا يحدث به إلا من يعقله ، ولا يحدث القليل الفهم بما لا يحتمله .
وفيه :جواز إخبار السلطان بكلام من يخشى منه وقوع أمر فيه إفساد للجماعة ولا يعد ذلك من النميمة المذمومة ، لكن محل ذلك أن يبهمه صونا له وجمعا له بين المصلحتين ، ولعل الواقع في هذه القصة كان كذلك ، واكتفى عمر بالتحذير من ذلك ولم يعاقب الذي قال ذلك ولا من قيل عنه ،..

وفيه :أن من اطلع على أمر يريد الإمام أن يحدثه فله أن ينبه غيره عليه إجمالا ليكون إذا سمعه على بصيرة ، كما وقع لابن عباس مع سعيد بن زيد ، وإنما أنكر سعيد على ابن عباس لأن الأصل عنده أن أمور الشرع قد استقرت ، فمهما أحدث بعد ذلك إنما يكون تفريعا عليها ، وإنما سكت ابن عباس عن بيان ذلك له لعلمه بأنه سيسمع ذلك من عمر على الفور .
...
وفي قوله : " أخشى إن طال بالناس زمان " إشارة إلى دروس العلم مع مرور الزمن فيجد الجهال السبيل إلى التأويل بغير علم ، وأما الحديث الآخر وهو " لا تطروني " ففيه إشارة إلى تعليمهم ما يخشى عليهم جهله ، قال : وفيه : اهتمام الصحابة وأهل القرن الأول بالقرآن والمنع من الزيادة في المصحف ، وكذا منع النقص بطريق الأولى ؛ لأن الزيادة إنما تمنع لئلا يضاف إلى القرآن ما ليس منه فإطراح بعضه أشد.
...وفيه :دليل على أن من خشي من قوم فتنة وأن لا يجيبوا إلى امتثال الأمر الحق أن يتوجه إليهم ويناظرهم ويقيم عليهم الحجة ، وقد أخرج النسائي من حديث سالم بن عبيد الله قال : " اجتمع المهاجرون يتشاورون فقالوا : انطلقوا بنا إلى [ ص: 162 ] إخواننا الأنصار ، فقالوا : منا أمير ومنكم أمير ، فقال عمر فسيفان في غمد إذا لا يصلحان ، ثم أخذ بيد أبي بكر فقال : من له هذه الثلاثة إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ؟ من صاحبه إذ هما في الغار من هما؟ فبايعه وبايعه الناس أحسن بيعة وأجملها...
وفيه :جواز الدعاء على من يخشى في بقائه فتنة ،.وفيه: أن على الإمام إن خشي من قوم الوقوع في محذور أن يأتيهم فيعظهم ويحذرهم قبل الإيقاع بهم ،...
واستدل بقول أبي بكر : " أحد هذين الرجلين " ، أن شرط الإمام أن يكون واحدا ، وقد ثبت النص الصريح في حديث مسلم " إذا بايعوا الخليفتين فاقتلوا الآخر منهما " وإن كان بعضهم أوله بالخلع والإعراض عنه فيصير كمن قتل . وكذا قال الخطابي في قول عمر في حق سعد : اقتلوه أي اجعلوه كمن قتل  " انتهى باختصار
 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...