الجمعة، 21 فبراير 2014

من درر الفوائد:شرح نفيس مختصر لدعاء( دفع الهم والحزن)للإمام ابن القيم -رحمه الله-

قال -رحمه الله-  في كتابه العجاب<شفاء العليل>ص587-594:

"الباب السابع والعشرون: في دخول الإيمان بالقضاء والقدر والعدل والتوحيد تحت قوله: "ماض في حكمك عدل في قضاؤك" ، وما تضمنه الحديث من قواعد الدين

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب عبدا قط هم ولا غم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض في حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانه فرحا
 قالوا: يا رسول الله أفلا نتعلمهن،
 قال:" بلى ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن"
فقد دل هذا الحديث الصحيح على أشياء:
 منها: أنه استوعب أقسام المكروه الواردة على القلب:
 فالهم يكون على مكروه يتوقع في المستقبل يهتم به القلب،
 والحزن على مكروه ماض من فوات محبوب أو حصول مكروه إذا تذكره أحدث له حزنا ،
والغم يكون على مكروه حاصل في الحال يوجب لصاحبه الغم؛
 فهذه المكروهات هي من أعظم أمراض القلب وأدوائه ، وقد تنوع الناس في طرق أدويتها ، والخلاص منها ، وتباينت طرقهم في ذلك تباينا لا يحصيه إلا الله بل كل أحد يسعى في التخلص منها بما يظن أو يتوهم أنه يخلصه منها ،  وأكثر الطرق والأدوية التي يستعملها الناس في الخلاص منها لا يزيدها إلا شدة؛ لمن يتداوى منها بالمعاصي على اختلافها من أكبر كبائرها إلى أصغرها ، 
 وكمن يتداوى منها باللهو واللعب ، والغناء وسماع الأصوات المطربة وغير ذلك؛ فأكثر سعي بني آدم أو كله إنما هو لدفع هذه الأمور والتخلص منها،
 وكلهم قد أخطأ الطريق؛ إلا من سعى في إزالتها بالدواء الذي وصفه الله لإزالتها، وهو دواء مركب من مجموع أمور، متى نقص منها جزء نقص من الشفاء بقدره ، وأعظم أجزاء هذا الدواء هو التوحيد والاستغفار، قال تعالى: {اعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ
 وفي الحديث: "فإن الشيطان يقول أهلك بني آدم بالذنوب وأهلكوني بالاستغفار وبلا إله إلا الله فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء فهم يذنبون ولا يتوبون لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا"[ضعيف
 ولذلك كان الدعاء المفرج للكرب محض التوحيد ، وهو : " لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا هو رب العرش العظيم ، لا إله إلا هو رب السماوات ورب الأرض رب العرش الكريم
 وفي الترمذي وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوة أخي ذي النون ما دعاها مكروب إلا فرج الله كربه لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين" ؛
 فالتوحيد يدخل العبد على الله، والاستغفار والتوبة يرفع المانع ، ويزيل الحجاب الذي يحجب القلب عن الوصول إليه؛ فإذا وصل القلب إليه زال عنه همه وغمه وحزنه ، وإذا انقطع عنه حصرته الهموم والغموم والأحزان وأتته من كل طريق ودخلت عليه من كل باب؛
 فلذلك صدر هذا الدعاء المذهب للهم والغم والحزن بالاعتراف له بالعبودية حقا منه ، ومن آياته ثم أتبع ذلك باعترافه بأنه في قبضته وملكه وتحت تصرفه بكون ناصيته في يده يصرفه كيف يشاء،  كما يقاد من أمسك بناصيته شديد القوى لا يستطيع إلا الانقياد له ، ثم أتبع ذلك بإقراره له بنفاذ حكمه فيه وجريانه عليه شاء أم أبى ، وإذا حكم فيه بحكم لم يستطع غيره برده أبدا، وهذا اعتراف لربه بكمال القدرة عليه واعتراف من نفسه بغاية العجز والضعف؛ فكأنه قال أنا عبد ضعيف مسكين يحكم فيه قوى قاهر غالب ،وإذا حكم فيه بحكم مضى حكمه فيه ولا بد ، ثم أتبع ذلك باعترافه بأن كل حكم وكل قضية ينفذها فيه هذا الحاكم؛ فهي عدل محض منه لا جور فيها ولا ظلم بوجه من الوجوه،  فقال:" ماض في حكمك عدل في قضاؤك" ، وهذا يعم جميع أقضيته سبحانه في عبده؛
 قضائه السابق فيه قبل إيجاده،
 وقضائه فيه المقارن لحياته،
 وقضائه فيه بعد مماته ،
وقضائه فيه يوم معاده،
 ويتناول قضاءه فيه بالذنب،
 وقضائه فيه بالجزاء عليه ،
ومن لم يثلج صدره لهذا ويكون له كالعلم الضروري، لم يعرف ربه وكماله ، ونفسه وعينه ولا عدل في حكمه بل هو جهول ظلوم؛ فلا علم ولا إنصاف.
 .. والمقصود أنه أعدل العادلين في قضائه بالسبب وقضائه بالمسبب؛ فما قضى في عبده بقضاء إلا وهو واقع في محله الذي لا يليق به غيره، إذ هو الحكم العدل الغني الحميد.
                                   فصل
... وقد دل الحديث على أن أسماء الله غير مخلوقة بل هو الذي تكلم بها وسمى بها نفسه ، ولهذا لم يقل بكل اسم خلقته لنفسك ، ولو كانت مخلوقة لم يسأله بها ؛ فإن الله لايقسم عليه بشيء من خلقه ؛ فالحديث صريح في أن أسماءه ليست من فعل الآدميين وتسمياتهم ، وأيضا فإن أسماءه مشتقة من صفاته ، وصفاته قديمة به فأسماؤها غير مخلوقة، ...
 فقوله في الحديث: "سميت به نفسك" ولم يقل خلقته لنفسك ، ولا قال سماك به خلقك دليل على أنه سبحانه تكلم بذلك الاسم وسمى به نفسه،  كما سمى نفسه في كتبه التي تكلم بها حقيقة بأسمائه،
 وقوله:" أو استأثرت به في علم الغيب عندك" دليل على أن أسماءه أكثر من تسعة وتسعين ، وأن له أسماء وصفات استأثر بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره ، وعلى هذا فقوله :"أن لله تسعة وتسعين اسما من أحصاها دخل الجنة" لا ينفي أن يكون له غيرها ، والكلام جملة واحدة أي له أسماء موصوفة بهذه الصفة كما يقال: لفلان مائة عبدا أعدهم للتجارة ، وله مائة فرس أعدها للجهاد وهذا قول الجمهور، وخالفهم ابن حزم فزعم: أن أسماءه تنحصر في هذا العدد.
 وقد دل الحديث على: أن التوسل إليه سبحانه بأسمائه وصفاته أحب إليه ، وأنفع للعبد من التوسل إليه بمخلوقاته ، وكذلك سائر الأحاديث ، كما في حديث الاسم الأعظم: "اللهم أني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم
 وفي الحديث الآخر: "أسألك بأني أشهد أنك أنت الله الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد" ، 
وفي الحديث الآخر: "اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق
 وكلها أحاديث صحاح رواها ابن حبان والإمام أحمد والحاكم،
 وهذا تحقيق لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا
 وقوله:" أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري" يجمع أصلين الحياة والنور؛ فإن الربيع هو المطر الذي يحيي الأرض فينبت الربيع؛ فيسأل الله بعبوديته وتوحيده وأسمائه وصفاته أن يجعل كتابه الذي جعله روحا للعالمين ونوراو حياة لقلبه بمنزلة الماء الذي يحيي به الأرض ، ونورا له بمنزلة الشمس التي تستنير بها الأرض ، والحياة والنور جماع الخير كله،  قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ} وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} فأخبر أنه روح تحصل به الحياة ، ونور تحصل به الهداية؛
 فأتباعه لهم الحياة والهداية ، 
ومخالفوه لهم الموت والضلال،
 وقد ضرب سبحانه المثل لأوليائه وأعدائه بهذين الأصلين في أول سورة البقرة ، وفي وسط سورة النور ، وفي سورة الرعد ، وهما المثل المائي ، والمثل الناري،
 وقوله:" وجلاء حزني وذهاب همي وغمي" إن جلاء هذا يتضمن إزالة المؤذي الضار ، وذلك يتضمن تحصيل النافع السار؛
 فتضمن الحديث طلب أصول الخير كله ، ودفع الشر.
 وبالله التوفيق"انتهى باختصار.
وقال-رحمه الله-في كتابه العجاب"زاد المعاد"ص816-817:
"وأما حديث ابن مسعود: "اللهُمَّ إني عَبْدُكَ ابْنُ عَبْدِكَففيه من المعارف الإلهية، وأسرارِ العبودية ما لا يتَّسِعُ له كتاب، فإنه يتضمَّن الاعترافَ بعبوديته وعبودية آبائه وأُمهاته، وأنَّ ناصيته بيده يُصرِّفها كيف يشاء، فلا يملِك العبدُ دونه لنفسه نفعًا ولا ضرًا، ولا موتًا ولا حياةً، ولا نُشورًا، لأنَّ مَن ناصيتُه بيد غيره، فليس إليه شىءٌ من أمره، بل هو عانٍ في قبضته، ذليل تحت سلطان قهرِه.
وقوله: "ماضٍ في حُكْمُكَ عَدْلٌ في قضاؤكَ" متضمنٌ لأصلين عظيمين عليهما مدارُ التوحيد:
أحدهما: إثباتُ القَدَر، وأنَّ أحكام الرَّبِّ تعالى نافذةٌ في عبده ماضيةٌ فيه، لا انفكاكَ له عنها، ولا حِيلةَ له في دفعها.
والثاني: أنه سبحانه عدلٌ في هذه الأحكام، غير ظالم لعبده، بل لا يخرُج فيها عن موجب العدل والإحسان، فإنَّ الظلم سببه حاجةُ الظالم، أو جهلُه، أو سفهُه، فيستحيلُ صدورهُ ممن هو بكل شىء عليمٌ، ومَن هو غنيٌ عن كل شىء، وكلُّ شىء فقيرٌ إليه، ومَنْ هو أحكم الحاكمين، فلا تخرُج ذَرَّةٌ مِن مقدوراته عن حِكمته وحمده، كما لم تخرج عن قُدرته ومشيئته، فحِكمته نافذة حيثُ نفذتْ مشيئته وقُدرته، ولهذا قال نبي الله هودٌ صَلَّى الله على نبينا وعليه وسَلَّم، وقد خَوَّفه قومُه بآلهتهم: { إني أُشْهِدُ اللهَ وَاشْهَدُواْ إني بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ *مِن دُونِهِ، فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ * إني تَوَكَّلْتُ علَى اللهِ رَبِّي وَرَبِّكُم * مَّا مِن دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا، إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، أي مع كونه سبحانه آخذًا بنَواصى خلقه وتصريفهم كما يشاء، فهو على صراطٍ مستقيمٍ لا يتصرَّفُ فيهم إلا بالعدل والحكمة، والإحسان والرحمة. فقوله: "ماضٍ في حُكْمُكَ"، مطابقٌ لقوله: { مَا مِن دَابَّةٍ إلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا }، وقولُه: "عَدْلٌ في قضاؤكَ"، مطابقٌ لقوله: { إنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ،
 ثم توسَّلَ إلى رّبِّه بأسمائه التي سمَّى بها نفسه ما عَلِمَ العبادُ منها وما لم يعلموا. ومنها: ما استأثره في علم الغيب عنده، فلم يُطلع عليه مَلَكًا مُقرَّبًا، ولا نبيًّا مرسلًا، وهذه الوسيلةُ أعظمُ الوسائل، وأحبُّها إلى الله، وأقربُها تحصيلًا للمطلوب.
ثم سأله أن يجعلَ القرآن لِقلبه كالربيع الذي يرتَع فيه الحيوانُ، وكذلك القرآنُ ربيعُ القلوب، وأن يجعلَه شفاءَ هَمِّه وغَمِّه، فيكونُ له بمنزلة الدواء الذي يستأصِلُ الداء، ويُعيدُ البدن إلى صحته واعتداله، وأن يجعله لحُزنه كالجِلاء الذي يجلو الطُّبوعَ والأصديةَ وغيرها،
 فأحْرَى بهذا العلاج إذا صدق العليل في استعماله أن يُزيلَ عنه داءه،
 ويُعقبه شفاءً تامًا، وصحةً وعافيةً.
 والله الموفق".

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...