الجمعة، 4 مايو 2012

الزهد...أقسامه...حقيقته... مراتبه..وذكر أمور ثلاثة تسهله على النفس...

قال الامام ابن القيم -رحمه الله- في كتابه العجاب(طريق الهجرتين):
" أن الزهد على أربعة أقسام:
أحدها: فرض على كل مسلم وهو الزهد فى الحرام، وهذا متى أخل به انعقد سبب العقاب، فلا بد من وجود مسببه ما لم ينعقد سبب آخر يضاده.

الثانى: زهد مستحب، وهو على درجات فى الاستحباب بحسب المزهود فيه. وهو الزهد فى المكروه وفضول المباحات والتفنن فى الشهوات المباحة.

الثالث: زهد الداخلين فى هذا الشأْن، وهم المشمرون فى السير إلى الله وهو نوعان:

أحدهما: الزهد فى الدنيا جملة، وليس [المراد] تخليها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفراً منها، وإنما المراد إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت فى يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك وهى فى قلبك وإنما الزهد أن تتركها من قلبك وهى فى يدك.
وهذا كحال الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز الذى يضرب بزهده المثل مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حين فتح الله عليه من الدنيا ما فتح، ولا يزيده ذلك إلا زهداً فيها.
ومن هذا الأثر المشهور، وقد روى مرفوعاً وموقوفاً: ((ليس الزهد فى الدنيا [بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن الزهد فى الدنيا] أن تكون بما فى يد الله أوثق منك بما فى يدك، وأن تكون فى ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أَرغب منك فيها لو أنها بقيت لك)).
والذى يصحح هذا الزهد ثلاثة أشياء:

أحدها: علم العبد أنها ظل زائل وخيال زائر وأنها كما قال الله تعالى فيها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهُوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِى الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرَّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً}* [الحديد: 20]، 

وقال الله تعالى: {إِنَّما مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرضُ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضِ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَهَا حَصِيداً كَأَن لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}* [يونس: 24]،
 وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيءٍ مُقْتَدِراً}* [الكهف: 45]،
 وسماها سبحانه: ((متاع الغرور)) ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوء عاقبة المغترين [بها] وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضى بها واطمأن إليها.

وقال النبى صلى الله عليه وسلم: (مالى وللدنيا إنما أن كراكب قال فى ظل شجرة ثم راح وتركها).
وفى المسند عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه:( أن الله جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلاً للدنيا فإنه وإن فوَّحه وملحه فلينظر إلى ماذا يصير
 فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همة دنية وعقل حقير، وقدر خسيس.

الثانى: علمه أن وراءها داراً أعظم منها قدراً وأجل خطراً وهى دار البقاءِ، وأن نسبتها إليها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: (ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم إصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع
 فالزاهد فيها بمنزلة رجل فى يده درهم زغل قيل له: اطرحه [ولك] عوضه مائة ألف دينار مثلاً، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزهد فيها لكمال [رغبته] فيما هو أعظم منها زهد فيها.

الثالث: معرفته أن زهده فيها لا يمنعه شيئاً كتب له منها، وأن حرصه عليها لا يجلب له ما لم يقض له منها، فمتى تيقن ذلك وصار له به علم يقين هان عليه الزهد فيها، فإنه متى تيقن ذلك وثلج له صدره وعلم أن مضمونه منها سيأْتيه بقى حرصه وتعبه وكده ضائعاً، والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك
فهذه الأُمور الثلاثة تسهل على العبد الزهد فيها، وتثبت قدمه فى مقامه. والله الموفق لمن يشاءُ.

النوع الثانى: الزهد فى نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقها، وأَكثر الزاهدين إنما وصلوا إليه ولم يلجوه، فإن الزاهد يسهل عليه الزهد فى الحرام لسوءِ مغبته وقبح ثمرته، وحماية لدينه وصيانة لإيمانه، وإيثاراً للذة والنعيم على العذاب، وأنفة من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأْثر لعدوه، ويسهِّل عليه الزهد فى المكروهات وفضول المباحات علمه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم.
ويسهل عليه زهده فى الدنيا معرفته بما وراءَها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأَعلى. 
وأما الزهد فى النفس فهو ذبحها بغير سكين، وهو نوعان:

أحدهما: وسيلة وبداية، وهو أن تميتها فلا يبقى [لها] عندك من القدر شيء، فلا تغضب لها ولا ترضى لها ولا تنتصر لها ولا تنتقم لها، قد سبَّلت عرضها ليوم فقرها وفاقتها، فهى أهون عليك من أن تنتصر لها أو تنتقم لها أو تجيبها إذا دعتك أو تكرمها إذا عصتك أو تغضب لها إذا ذُمت، بل هى عندك أخس مما قيل فيها، أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك، وإن كان صعباً عليها، وهذا وإن كان ذبحاً لها وأماتة عن طباعها وأخلاقها فهو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا البتة.
وهذه العقبة هى آخر عقبة يشرف منها على منازل المقربين، وينحدر منها إلى وادى البقاءِ ويشرب من عين الحياة، ويخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق، فيا قرة عينها ويا نعيمها وسرورها بقربه، ويا بهجتها بالخلاص من عدوها، [ومصيرها إلى وليها] مولاها ومالك أمرها ومتولى مصالحها. وهذا الزهد هو أول نقدة من مهر الحب، فيا مفلس تأَخر.
والنوع الثانى: غاية وكمال، وهو أن يبذلها للمحبوب جملة، بحيث لا يستبقى منها شيئاً. بل يزهد فيها زهد المحب فى قدر خسيس من ماله قد تعلقت رغبة محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبة فى إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ 
 فهكذا زهد المحب الصادق فى نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه، فهو يبذلها له دائماً بتعرض منه لقبولها.
وجميع مراتب الزهد المتقدمة مباد ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصح إلا بتلك المراتب، فمن رام الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها [فتمعن] متمنَّ كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلَّم.
قال بعض السلف: إنما حرموا الوصول بتضييع الأُصول، فمن ضيع الأُصول حرم الوصول، 
وإذا عرف هذا فكيف يدعى أن الزهد من منازل العوام وأنه نقص فى طريق الخاصة؟ وهل الكمال إلا فى الزهد؟ وما النقص إلا فى نقصانه
والله الموفق للصواب"انتهي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...