الخميس، 9 يناير 2014

من درر الإمام ابن القيم-رحمه الله-:شرح مختصر لأدعية نبوية من جوامع الدعاء...

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله- عند تفسيره للمعوذتين (الفلق والناس)في كتابه العجاب<بدائع الفوائد>(1/2/175-177):
" وقبل الكلام في ذلك. لا بد من بيان الشر ما هو وما حقيقته. فنقول:
الشر يقال على شيئين:
 على الألم ، وعلى ما يفضي إليه،
 وليس له مسمى سوى ذلك،
 فالشرور هي الآلام وأسبابها.
 فالمعاصي والكفر والشرك وأنواع الظلم هي شرور. وإن كان لصاحبها فيها نوع غرض ولذة.
 لكنها شرور، لأنها أسباب الالام ومفضية إليها ؛ كإفضاء سائر الأسباب إلى مسبباتها.
 فترتب الألم عليها كترتب الموت على تناول السموم القاتلة،
 وعلى الذبح والإحراق بالنار والخنق بالحبل وغير ذلك من الأسباب التي تصيبه مفضية إلى مسبباتها، ولا بد ما لم يمنع السببية مانع، أو يعارض السبب ما هو أقوى منه وأشد اقتضاء لضده،
 كما يعارض سبب المعاصي قوة الإيمان ، وعظمة الحسنات الماحية ، وكثرتها فيزيد في كميتها وكيفيتها على أسباب العذاب فيدفع الأقوى للأضعف.
 وهذا شأن جميع الأسباب المتضادة كأسباب الصحة والمرض،
 وأسباب الضعف والقوة.
والمقصود: أن هذه الأسباب التي فيها لذة ما هي شر. وإن نالت بها النفس مسرة عاجلة وهي بمنزلة طعام لذيذ شهي. لكنه مسموم إذا تناوله الآكل لذ لآكله، وطاب له مساغه، وبعد قليل يفعل به ما يفعل.
 فهكذا المعاصي والذنوب ولا بد حتى لو لم يخبر الشارع بذلك لكان الواقع والتجربة الخاصة والعامة من أكبر شهوده.
وهل زالت عن أحد قط نعمة إلا بشؤم معصيته. 
فإن الله إذا أنعم على عبد بنعمة حفظها عليه، ولا يغيرها عنه حتى يكون هو الساعي في تغييرها عن نفسه: { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءًا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال }. 
ومن تأمل ما قص الله في كتابه من أحوال الأمم الذين أزال نعمه عنهم. وجد سبب ذلك جميعه، إنما هو مخالفة أمره وعصيان رسله، وكذلك من نظر في أحوال أهل عصره. وما أزال الله عنهم من نعمه وجد ذلك كله من سوء عواقب الذنوب كما قيل:
إذا كنت في نعمة فارعها ** فإن المعاصي تزيل النعمْ
فما حفظت نعمة الله بشيء قط مثل طاعته،
 ولا حصلت فيها الزيادة بمثل شكره،
 ولا زالت عن العبد بمثل معصيته لربه.
 فإنها نار النعم التي تعمل فيها كما تعمل النار في الحطب اليابس.
 ومن سافر بفكره في أحوال العالم استغنى عن تعريف غيره له.
والمقصود: أن هذه الأسباب شرور ولا بد. وأما كون مسبباتها شرورًا فلأنها آلام نفسية وبدنية فيجتمع على صاحبها مع شدة الألم الحسي ألم الروح بالهموم الغموم والأحزان والحسرات.
 ولو تفطن العاقل اللبيب لهذا حق التفطن لأعطاه حقه من الحذر والجد في الهرب. ولكن قد ضرب على قلبه حجاب الغفلة ليقضي الله أمرًا كان مفعولا. فلو تيقظ حق التيقظ لتقطعت نفسه في الدنيا حسرات على ما فاته من حظه العاجل والآجل من الله. 
وإنما يظهر له هذا حقيقة الظهور عند مفارقة هذا العالم والإشراف والإطلاع على عالم البقاء. فحينئذ يقول: { يا ليتني قدمت لحياتي }،  { يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله }. 
ولما كان الشر هو الآلام وأسبابها كانت استعاذات النبي صلى الله عليه وسلم جميعها مدارها على هذين الأصلين؛
  فكل ما استعاذ منه ، أو أمر بالاستعاذة منه؛
 فهو: إما مؤلم، وإما سبب يفضي إليه.
 فكان يتعوذ في آخر الصلاة من أربع ، وأمر بالاستعاذة منهن وهي:
 عذاب القبر ، وعذاب النار. فهذان أعظم المؤلمات.
 وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال. وهذان سبب العذاب المؤلم.
 فالفتنة سبب العذاب. وذكر الفتنة خصوصًا وعمومًا. وذكر نوعي الفتنة،
 لأنها إما في الحياة، وإما بعد الموت،
 ففتنة الحياة قد يتراخى عنها العذاب مدة، 
وأما فتنة الموت فيتصل بها العذاب من غير تراخ؛
 فعادت الاستعاذة إلى الألم والعذاب وأسبابها.
 وهذا من آكد أدعية الصلاة حتى أوجب بعض السلف والخلف الإعادة على من لم يدع به في التشهد الأخير، وأوجبه ابن حزم في كل تشهد، فإن لم يأت به بطلت صلاته.
ومن ذلك قوله: «اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال»؛
 فاستعاذ من ثمانية أشياء كل اثنين منها قرينان.
 فالهم والحزن قرينان وهما: من آلام الروح ومعذباتها.
 والفرق بينهما: أن الهم توقع الشر في المستقبل ، والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي أو فوات المحبوب ،
 وكلاهما تألم وعذاب يرد على الروح.
 فإن تعلق بالماضي سمي حزنًا، 
وإن تعلق بالمستقبل سمي همًا.
والعجز والكسل قرينان وهما :من أسباب الألم، لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدم القدرة، والكسل يستلزم عده إرادته.
 فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به ، والتذاذها بإدراكه لو حصل.
والجبن والبخل قرينان، لأنهما : عدم النفع بالمال والبدن وهما : من أسباب الألم، لأن الجبان تفوته محبوبات ومفرحات وملذوذات عظيمة لا تنال إلا بالبذل والشجاعة،
 والبخل يحول بينه دونها أيضا؛
 فهذان الخلقان من أعظم أسباب الآلام.
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان وهما: مؤلمان للنفس معذبان لها.
 أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين. 
والثاني: قهر بباطل وهو غلبة الرجال،
 وأيضا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.
ومن ذلك تعوذه صلى الله عليه وسلم: «من المأثم والمغرم»؛
 فإنهما يسببان الألم العاجل.
 ومن ذلك قوله: «أعوذ برضاك من سخطك وبمعافاتك من عقوبتك»؛
 فالسخط سبب الألم والعقوبة هي الألم؛
 فاستعاذ من أعظم الآلام وأقوى أسبابها.

فصل: الشر المستعاذ منه نوعان

والشر المستعاذ منه نوعان:
 أحدهما: موجود يطلب رفعه،
 والثاني: معدوم يطلب بقاؤه على العدم وأن لا يوجد.
 كما أن الخير المطلق نوعان:
 أحدهما: موجود فيطلب دوامه وثباته وأن لا يسلبه،
 والثاني: معدوم فيطلب وجوده وحصوله.
فهذه أربعة هي أمهات مطالب السائلين من رب العالمين وعليها مدار طلباتهم.
 وقد جاءت هذه المطالب الأربعة في قوله تعالى حكاية عن دعاء عباده في آخر آل عمران في قولهم: { ربنا إننا سمعنا مناديًا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا
  فهذا الطلب لدفع الشر الموجود. فإذ الذنوب والسيئات شر كما تقدم بيانه.
ثم قال: { وتوفنا مع الأبرار }، فهذا طلب لدوام الخير الموجود، وهو الإيمان حتى يتوفاهم عليه.
 فهذان قسمان.
ثم قال: { ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك }، فهذا طلب للخير المعدوم أن يؤتيهم إياه. ثم قال: { ولا تخزنا يوم القيامة }، فهذا طلب أن لا يوقع بهم الشر المعدوم وهو خزي يوم القيامة.
فانتظمت الآيتان المطالب الأربعة أحسن انتظام مرتبة أحسن ترتيب قدم فيها النوعان اللذان في الدنيا،
 وهما المغفرة ودوام الإسلام إلى الموت،
 ثم اتبعا بالنوعين اللذين في الآخرة.
 وهما أن يعطوا ما وعدوه على ألسنة رسله وأن لا يخزيهم يوم القيامة.
فإذا عرف هذا فقوله صلى الله عليه وسلم في في تشهد الخطبة: «ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا»، يتناول الاستعاذة من شر النفس الذي هو معدوم لكنه فيها بالقوة فيسأل دفعه وأن لا يوجد.
وأما قوله: «من سيئات أعمالنا» ففيه قولان:
أحدهما: أنه استعاذة من الأعمال السيئة التي قد وجدت، فيكون الحديث قد تناول نوعي الاستعاذة من الشر المعدوم الذي لم يوجد ومن الشر الموجود.
 فطلب دفع الأول ، ورفع الثاني.
والقول الثاني: إن سيئات الأعمال هي التي عقوباتها وموجباتها السيئة التي تسوء صاحبها وعلى هذا يكون من استعاذه الدفع أيضا دفع المسبب. والأول دفع السبب فيكون قد استعاذ من حصول الألم وأسبابه وعلى الأول يكون إضافة السيئات إلى الأعمال من باب إضافة النوع إلى جنسه.
 فإن الأعمال جنس وسيئاتها نوع منها.
 وعلى الثاني يكون من باب إضافة المسبب إلى سببه ،  والمعلول إلى علته؛ كأنه قال: من عقوبة عملي.
 والقولان محتملان.
 فتأمل أيهما أليق بالحديث وأولى به. فإن مع كل واحد منهما نوعًا من الترجيح.
فيترجح الأول بأن منشأ الأعمال السيئة من شر النفس؛ فشر النفس يولد الأعمال السيئة فاستعاذ من صفة النفس ، ومن الأعمال التي تحدث عن تلك الصفة،
 وهذان جماع الشر وأسباب كل ألم،
 فمتى عوفي منهما عوفي من الشر بحذافيره.
ويترجح الثاني بأن سيئات الأعمال هي العقوبات التي تسوء العامل ، وأسبابها شر النفس،
 فاستعاذ من العقوبات والآلام وأسبابها. 
والقولان في الحقيقة متلازمان والاستعاذة من أحدهما تستلزم الاستعاذة من الآخر.

فصل: الشر ومصدره ومنتهاه

ولما كان الشر له سبب هو مصدره ، وله مورد ، ومنتهى.
 وكان السبب: إما من ذات العبد،
 وإما من خارج،
 ومورده ومنتهاه:
 إما نفسه، وإما غيره؛
 كان هنا أربعة أمور:
 شر مصدره: من نفسه ، ويعود على نفسه تارة ، وعلى غيره أخرى،
 وشر مصدره: من غيره وهو السبب فيه ، ويعود على نفسه تارة وعلى غيره أخرى - جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علمه الصديق أن يقوله إذا أصبح، وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه: «اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أشهد أن لا إله إلا أنت أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي سوءًا أو أجره إلى مسلم».
 فذكر مصدري الشر وهما: النفس والشيطان،
 وذكر مورديه ونهايتيه وهما: عوده على النفس أو على أخيه المسلم،
 فجمع الحديث مصادر الشر ، وموارده في أوجز لفظه ،وأخصره ، وأجمعه ، وأبينه"انتهى.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...