الخميس، 18 أكتوبر 2012

من روائع التفسير : آية شتملت على جميع مصالح العباد...

قال الامام ابن قيم الجوزية -رحمه الله- :
" فان الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه:{ وتعاونوا على البر والتقوى ولاتعاونوا على الاثم والعدوان واتقوا الله ان الله شديد العقاب}
وقد اشتملت هذه الآية على جميع مصالح العباد في معاشهم، ومعادهم؛

 فيما بينهم بعضهم بعضا ، 
وفيما بينهم وبين ربهم ؛ 
فان كل عبد لاينفك عن هاتين الحالتين ،وهذين الواجبين : واجب بينه وبين الله ، 
وواجب بينه وبين الخلق.
فاما ما بينه وبين الخلق : من المعاشرة ، والمعاونه ، والصحبة ؛ فالواجب عليه فيها :
 ان يكون اجتماعه بهم وصحبته لهم :
 تعاونا على مرضاة الله ، وطاعته ، التي هي غاية سعادة العبد ، وفلاحه ،ولاسعادة له الا بها، وهي البر والتقوى اللذان هما جماع الدين كله.
فالبر : كلمة جامعة لجميع انواع الخير ، والكمال المطلوب من العبد ، وفي مقابلته الاثم .

 وفي حديث النواس بن سمعان ان النبي صلى الله عليه و سلم قال له: " جئت تسال عن البر والاثم".
 فالاثم كلمة جامعة للشرور ، والعيوب التي يذم العبد عليها ؛
فيدخل في مسمى البر : الايمان واجزاؤه الظاهرة والباطنة،... 
واما التقوى فحقيقتها : العمل بطاعة الله ايمانا ، واحتسابا ، امرا ونهيا ؛ 

فيفعل ما امر الله به ايمانا بالأمر ، وتصديقا بوعده ، ويترك ما نهى الله عنه ايمانا بالنهى ، وخوفا من وعيده ،
كما قال طلق بن حبيب: اذا وقعت الفتنة فاطفئوها بالتقوى،

  قالوا : وما التقوى ؟
 قال : ان تعمل بطاعة الله على نور من الله ؛ ترجوا ثواب الله ، وان تترك معصية الله ،على نور من الله ؛ تخاف عقاب الله.
وهذا احسن ما قيل في حد التقوى 
فان كل عمل لابد له من مبدا ، وغاية ؛ فلا يكون العمل طاعة وقربة حتى يكون مصدره عن الايمان؛ فيكون الباعث عليه هو الايمان المحض ، لا العادة ، ولا الهوى، ولا طلب المحمدة ، والجاه وغير ذلك ؛ 

بل لابد ان يكون مبدؤه محض الايمان ،
 وغايته ثواب الله وابتغاء مرضاته وهو الاحتساب.
ولهذا كثيرا ما يقرن بين هذين الاصلين في مثل قول النبي صلى الله عليه و سلم :( من صام رمضان ايمانا واحتسابا) ، و (ومن قام ليلة القدر ايمانا واحتسابا ) ، ونظائره.
فقوله: على نور من الله ،اشارة الى الأصل الأول ، وهو الايمان الدي هو مصدر العمل ، والسبب الباعث عليه.
وقوله: ترجو ثواب الله ،اشارة ان الأصل الثاني ، وهو الاحتساب وهو الغاية التي لاجلها يوقع العمل ولها يقصد به.
ولا ريب ان هذا اسم لجميع اصول الايمان ، وفروعه ، وان البر داخل في هذا المسمى.
واما عند اقتران احدهما بالآخر، كقوله تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى

 فالفرق بينهما فرق بين السبب المقصود لغيره ، والغاية المقصودة لنفسها ؛ فان البر مطلوب لذاته اذ هو كمال العبد وصلاحه ، الذي لا صلاح له بدونه كما تقدم.
واما التقوى فهي الطريق الموصل الى البر والوسيلة اليه
،..
والمقصود من اجتماع الناس وتعاشرهم : هو التعاون على البر والتقوى ؛ فيعين كل واحد صاحبه على ذلك علما ،وعملا.
فان العبد وحده لايستقل بعلم ذلك، ولابالقدرة عليه ؛ فاقتضت حكمة الرب سبحانه ان جعل النوع الانساني قائما بعضه ببعضه، معينا بعضه لبعضه .
ثم قال تعالى:{ ولاتتعاونوا على الاثم والعدوان}
ووالاثم والعدوان في جانب النهي نظير : البر والتقوى في جانب الامر ، والفرق بين الاثم والعدوان؛ كالفرق ما بين محرم الجنس، ومحرم القدر.
الاثم : فالاثم ما كان حراما لجنسه ، والعدوان ماحرم لزيادة في قدره ، وتعدي ما اباح الله منه ؛ فالزنا والخمر والسرقة ونحوها : اثم
ونكاح الخامسة ، واستيفاء المجني عليه اكثر من حقه ، ونحوه: عدوان
.

العدوان : فالعدوان : هو تعدي حدود الله التي قال فيها :{ تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فاولئك هم الظالمون
وقال في موضع اخر:{ تلك حدود الله فلا تقربوها

 فنهى عن تعديها في آية ، وعن قربانها في آية ، وهذا لأن حدوده سبحانه هي النهايات الفاصلة بين الحلال والحرام،
 ونهاية الشئ تارة تدخل فيه فتكون منه ،
 وتارة لاتكون داخلة فيه ؛ فتكون لها حكم المقابلة ؛
 فبالأعتبار الاول نهى عن تعديها،
 وبالأعتبار الثاني نهى عن قربانها.
                  فصل : مابين العبد وربه 
فهذا حكم العبد فيما بينه وبين الناس ، وهو ان تكون مخالطته لهم تعاونا على البر والتقوى ،علما وعملا .
واما حاله فيما بينه وبين الله تعالى ؛ 

 فهو ايثار طاعته ، وتجنب معصيته ، وهو قوله تعالى : {واتقوا الله} فارشدت الآية الى ذكر واجب العبد بينه وبين الخلق، وواجبه بينه وبين الحق.
ولايتم له اداء الواجب الاول إلا بعزل نفسه من الوسط ، والقيام بذلك لمحض النصيحة والاحسان ، ورعاية الأمر،

 ولايتم له اداء الواجب الثاني الا بعزل الخلق من البين ، والقيام له بالله اخلاصا ومحبة وعبودية.
فينبغي التفطن لهذه الدقيقة التي كل خلل يدخل على العبد في اداء هذين الامرين الواجبين، انما هو عدم مراعاتها علما وعملا ، وهذا معنى قول الشيخ عبدالقادر قدس الله روحه:" كن مع الحق بلا خلق ، ومع الخلق بلا نفس ، ومن لم يكن كذلك لم يزل في تخبيط ولم يزل امره فرطا " ،..."انتهى
باختصار
  
"الرسالة التبوكية"ص33-38. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...