الخميس، 29 نوفمبر 2012

من نفائس الفصول: حقيقة الهجرة الى الرسول صلى الله عليه وسلم..للامام ابن القيم-رحمه الله-

قال الامام ابن القيم-رحمه الله-:
"فصل في الهجرة الى رسول الله صلى الله عليه و سلم 
واما الهجرة الى رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ فعلم لم يبق منه سوى اسمه ، ومنهج لم تترك بنيات الطريق سوى رسمه ،  ومحجة سفت عليها السوافي؛ فطمست رسومها، وغارت عليها الاعادي ؛ فغورت مناهلها، وعيونها ؛

 فسالكها غريب بين العباد ، فريد بين كل حي وناد، بعيد على قرب المكان، وحيد على كثرة الجيران، مستوحش مما به يستانسون ، مستانس مما به يستوحشون ،مقيم اذا ظعنوا ،ظاعن اذا قطنوا، منفرد في طريق طلبة ،لايقر قراره حتى يظفر به ؛ فهو الكائن معهم بجسده ، البائن منهم بمقصده، نامت في طلب الهدى اعينهم ،وما ليل مطيته بنائم، وقعدوا عن الهجرة النبوية وهو في طلبها مشمر قائم، يعيبونه بمخالفة ارائهم ،ويزرون عليه ازراءه على جهالاتهم، واهوائهم، قد رجموا فيه الظنون ، واحدقوا فيه العيون، وتربصوا به ريب المنون، {فتربصوا انا معكم متربصون}
{قال رب احكم بالحق وربنا الرحمن المستعان على ما تصفون}
     نحن واياكم نموت فما ... افلح عند الحساب من ندما

والمقصود ان هذه الهجرة النبوية شانها شديد ، وطريقها على غير المعتاد بعيد.
بعيد على كسلان او ذي ملالة ... اما على المشتاق فهو قريب 
ولعمر الله ما هي الا نور يتلالا ،ولكن انت ظلامه، وبدر اضاء مشارق الارض ومغاربها ، ولكن انت غيمه وقتامه ،ومنهل عذب صاف ، وانت كدره ،ومبتدا لخير عظيم، ولكن ليس عندك خبره .
فاسمع الآن شان هذه الهجرة، والدلالة عليها ،وحاسب ما بينك وبين الله :هل انت من الهاجرين لها ، او المهاجرين اليها ؟

 تعريف الهجرة الى الرسول صلى الله عليه و سلم 
 فحد هذه الهجرة : سفر النفس في كل مسالة من مسائل الايمان، ومنزل من منازل القلوب ،وحادثة من حوادث الاحكام ؛ الى معدن الهدى، ومنبع النور الملتقى من فم الصادق المصدوق الذي {وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى} ؛ فكل مسالة طلعت عليها شمس رسالته ، والا فاقذف بها في بحر الظلمات ، وكل شاهد عدله هذا المزكي ، والا فعده من أهل الريب والتهمات ؛ فهذا حد هذه الهجرة.
فما للمقيم في مدينة طبعه ، وعوائده ،القاطن في دار مرباه ومولده القائل :

انا على طريقة آبائنا سالكون ، وانا بحبلهم متمسكون ، وانا على آثارهم مقتدون ،ولهذه الهجرة التي كلت عليهم ، واستند في طريقة نجاحه ،وفلاحه اليهم ؛ معتذرا بان رأيهم خير من رأيه لنفسه ، وان ظنونهم وآراءهم اوثق من ظنه وحدسه.
ولو فتشت عن مصدر مقصود هذه الكلمة لوجدتها صادرة :عن الاخلاد الى ارض البطالة ، متولدة بين الكسل، وزوجه الملالة. هجرتان 
والمقصود : ان هذه الهجرة فرض على كل مسلم، وهي مقتضى شهادة ان محمدا رسول الله صلى الله عليه و سلم.
كما ان الهجرة الاولى مقتضى شهادة ان لااله الاالله
.
وعن هاتين الهجرتين يسال كل عبد يوم القيامة، وفي البرزخ ، ويطالب بها في الدنيا ،ودار البرزخ ، ودار القرار.
قال قتاده : كلمتان يسال عنهما الأولون والآخرون : ماذا كنتم تعبدون ،وماذا اجبتم المرسلين .
وهاتان الكلمتان هما مضمون الشهادتين، وقد قال تعالى:{ فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسملوا تسليما}؛

فاقسم سبحانه باجل مقسم به، وهو نفسه عز و جل على أنه لايثبت لهم الايمان ،ولايكونون من أهله ، حتى يحكموا رسول الله صلى الله عليه و سلم في جميع موارد النزاع في جميع ابواب الدين ؛
فإن لفظة {ما } من صيغ العموم فانها موصلة تقتضي نفي الايمان او يوجد تحكيمه في جميع ما شجر بينهم.
ولم يقتصر على هذا حتى ضم اليه انشراح صدورهم بحكمه ؛ حيث لايجدون في انفسهم حرجا، وهو الضيق والحصر من حكمه ؛ بل يقبلوا حكمه بالانشراح ، ويقابلوه بالتسليم ،لا انهم ياخذونه على اغماض ،ويشربونه على قذى؛ فان هذا مناف للايمان بل لابد ان يكون اخذه بقبول ، ورضا وانشراح صدر،
ومتى اراد العبد ان يعلم هذا فلينظر في حاله، ويطالع قلبه عند ورود حكمه على خلاف هواه ،وغرضه ،او على خلاف ما قلد فيه اسلافه من المسائل الكبار ، وما دونها
{ بل الانسان على نفسه بصيرة ولو القى معاذيره}
فسبحان الله كم من حزازة في نفوس كثير من الناس ؛ من كثير من النصوص، وبودهم ان لو لم ترد ، وكم من حرارة في اكبادهم منها ، وكم من شجى في حلوقهم منها ،ومن موردها ؛ ستبدو لهم تلك السرائر بالذي يسوء ويخزي يوم تبلى السرائر.

ثم لم يقتصر سبحانه على ذلك حتى ضم اليه قوله تعالى:{ويسلموا تسليما} فذكر الفعل مؤكدا بمصدره القائم مقام ذكره مرتين ،وهو التسليم والخضوع له ،والانقياد لما حكم به طوعا، ورضا ،وتسليما لا قهرا ومصابرة، كما يسلم المقهور لمن قهره كرها؛ بل تسليم عبد مطيع لمولاه وسيده ،الذي هو احب شئ اليه، يعلم ان سعادته، وفلاحه في تسليمه اليه ،ويعلم بانه اولى به من نفسه، وابر به منها ،واقدر على تخليصها .
فمتى علم العبد هذا من رسول الله صلى الله عليه و سلم ، واستسلم له، وسلم اليه ؛ انقادت له كل علة في قلبه، ورأى ان لاسعادة له الا بهذا التسليم ،والانقياد.
وليس هذا مما يحصل معناه بالعبارة ؛بل هو امر انشق القلب واستقر في سويدائه؛ لاتفي العبارة بمعناه ،ولا مطمع في حصوله بالدعوى والاماني 
وكل يدعى وصلا لليلى ... وليلى لاتقر لهم بذلك

 الحب بين العلم والحال 
وفرق بين علم الحب ،وحال الحب ؛

 فكثيرا ما يشتبه على العبد علم الشئ بحاله ، ووجوده؛
 وفرق بين المريض العارف بالصحة، والاعتدال ،وهو مثخن بالمرض، وبين الصحيح السليم ،وان لم يحسن وصف الصحة والعبارة عنها ،وكذلك فرق بين وصف الخوف ،والعلم به ،وبين حاله ووجوده "
الى ان قال -رحمه الله-:

" فيا عجبا كيف تحصل هذه الاولوية ؛ لعبد قد عزل ما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم عن منصب التحكيم ، ورضي بحكم غيره ، واطمان اليه ؛ اعظم من اطمئنانه الى الرسول صلى الله عليه و سلم، وزعم ان الهدى لايلتقي من مشكاته ،وانما يتلقى من دلالة العقول ،وان الذي جاء به لايفيد اليقين، الى غير ذلك من الاقوال ؛ التي تتضمن الاعراض عنه ، وعما جاء به ، والحوالة في العلم النافع الى غيره، ذلك هو الضلال البعيد ، ولا سبيل الى ثبوت هذه الاولوية الا بعزل كل ماسواه، وتوليته في كل شئ ، وعرض ما قاله كل احد سواه ؛على ماجاء به فان شهد له بالصحة قبله ، وان شهد له بالبطلان رده ، وان لم تتبين شهادته له لابصحة ، ولا ببطلان ؛ جعله بمنزلة احاديث اهل الكتاب ووقفه حتى يتبين أي الامرين اولى به .
فمن سلك هذه الطريقة، استقام له سفر الهجرة، واستقام له علمه ، وعمله ، واقبلت وجوه الحق اليه من كل جهة.

 ادعياء المحبة 
ومن العجب ان يدعي حصول هذه الاولوية ،والمحبة التامة من كان سعيه ،واجتهاده ، ونصبه في الاشتغال باقوال غيره ، وتقريرها والغضب ، والمحبة لها ، والرضا بها ، والتحاكم اليها ،وعرض ما قاله الرسول عليها ؛ فان وافقها قبله ، وان خالفها التمس وجوه الحيل ، وبالغ في رده ليا واعراضا
"
انتهى 
(الرسالة التبوكية)  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...