السبت، 15 سبتمبر 2012

من نفائس المقالات:من صفات المغضوب عليهم التي ابتليت بها الأمة...لشيخ الاسلام ابن تيمية-رحمه الله-



قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله- في كتابه العجاب(أقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم) ص6-11:
" ومع أن الله قد حذرنا سبيلهم فقضاؤه نافذ بما أخبر به رسوله مما سبق في علمه حيث قال فيما أخرجاه في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا حجر ضب لدخلتموه ".
 قالوا يا رسول الله :آليهود والنصارى؟
 قال:" فمن".
وروى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه -عن النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي مأخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع فقيل يا رسول الله : كفارس والروم  قال:" ومن الناس إلا أولئك".
فأخبر أنه سيكون في أمته مضاهاة لليهود والنصارى وهم أهل الكتاب ومضاهاة لفارس والروم وهم الأعاجم.
وقد كان صلى الله عليه وسلم ينهى عن التشبه بهؤلاء وهؤلاء ، وليس هذا إخبارا عن جميع الأمة بل قد تواتر عنه أنه قال :" لا تزال طائفة من أمتي ظاهرة على الحق حتى تقوم الساعة" وأخبر صلى الله عليه وسلم :" ان الله لا يجمع هذه الأمة على ضلالة "و" أن الله لا يزال يغرس في هذا الدين غرسا يستعملهم فيه بطاعته".
 فعلم بخبره الصدق :أن لا بد أن يكون في أمته قوم متمسكين بهديه الذي هو دين الإسلام محضا، وقوم منحرفين إلى شعبة من شعب دين اليهود أو إلى شعبة من شعب دين النصارى ،وإن كان الرجل لا يكفر بهذا الانحراف بل وقد لا يفسق أيضا بل قد يكون الإنحراف كفرا وقد يكون فسقا وقد يكون سيئة وقد يكون خطأ.
وهذا الانحراف أمر تتقاضاه الطباع ويزينه الشيطان فلذلك أمر العبد بدوام دعاء الله سبحانه بالهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية أصلا.
وأنا أشير إلى بعض أمور أهل الكتاب والأعاجم ،التي ابتليت بها هذه الأمة؛ ليجتنب المسلم الحنيف الانحراف عن الصراط المستقيم إلى صراط المغضوب عليهم أو الضالين:
قال الله سبحانه : {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق} (البقرة:109)؛
 فذم اليهود على ما حسدوا المؤمنين على الهدى والعلم ،
وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم: بنوع من الحسد لمن هداه الله لعلم نافع، أو عمل صالح ،وهو خلق مذموم مطلقا ، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم:
وقال الله سبحانه : {والله لا يحب كل مختال فخور الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل}(الحديد:24)، { ويكتمون ما آتاهم الله من فضله}(النساء:37) ؛
فوصفهم بالبخل :الذي هو البخل بالعلم ،والبخل بالمال ، وإن كان السياق يدل على أن البخل بالعلم هو: المقصود الأكبر؛
 فلذلك وصفهم بكتمان العلم في غير آية مثل قوله تعالى : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه } الآية (آل عمران:187) ،
وقوله تعالى : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا} الآية(البقرة:159،160) ،  وقوله:{ إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} الآية(البقرة:174) ،  وقوله تعالى:{ وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن}(البقرة:14) ؛
فوصف المغضوب عليهم بأنهم:
 يكتمون العلم تارة بخلا به، 
وتارة اعتياضا عن إظهاره بالدنيا،
 وتارة خوفا أن يحتج عليهم بما أظهروه منه.
وهذا قد ابتلى به طوائف من المنتسبين إلى العلم؛
 فإنهم تارة يكتمون العلم بخلا به وكراهة أن ينال غيرهم من الفضل ما نالوه ،
وتارة اعتياضا عنه برياسة أو مال، ويخاف من إظهاره انتقاص رياسته أو نقص ماله، وتارة يكون قد خالف غيره في مسألة، أو اعتزى إلى طائفة قد خولفت في مسألة؛ فيكتم من العلم : ما فيه حجة لمخالفه ،وإن لم يتيقن أن مخالفه مبطل.
ولهذا قال عبد الرحمن بن مهدي وغيره : أهل العلم يكتبون ما لهم وما عليهم، وأهل الأهواء لا يكتبون إلا ما لهم.
وليس الغرض تفصيل ما يحب وما يحتسب بل الغرض التنبيه على مجامع يتفطن اللبيب بها لما ينفعه الله به.
وقال تعالى:{ وإذا قيل لهم آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ويكفرون بما وراءه وهو الحق} الآية(البقرة:91) بعد أن قال :{وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين} (البقرة:89)؛
فوصف اليهود بأنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور النبي الناطق به والداعي إليه؛  فلما جاءهم النبي الناطق به من غير طائفة يهوونها، لم ينقادوا له ؛
 فإنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم.
وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم، أو الدين: من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم ،أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم لا يقبلون من الدين لا فقها ولا رواية إلاما جاءت به طائفتهم ، ثم إنهم لا يعلمون ما توجبه طائفتهم ؛ 
مع أن دين الإسلام يوجب اتباع الحق مطلقا رواية وفقها من غير تعيين شخص أو طائفة غير الرسول صلى الله عليه وسلم
وقال تعالى في صفة المغضوب عليهم:{ من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه}(النساء:46)،
 ووصفهم بأنهم {يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب وما هو من الكتاب}(آل عمران:187)،
 والتحريف: قد فسر بتحريف التنزيل ، وبتحريف التأويل؛
فأما تحريف التأويل: فكثير جدا، وقد ابتليت به طوائف من هذه الأمة.
وأما تحريف التنزيل:
 فقد وقع فيه كثير من الناس: يحرفون ألفاظ الرسول، ويروون أحاديث بروايات منكرة، وإن كان الجهابذة يدفعون ذلك ،
 وربما تطاول بعضهم إلى تحريف التنزيل ، وإن لم يمكنه ذلك كما قرأ بعضهم: {وكلم الله موسى تكليما}(النساء:164).
وأما تطاول بعضهم إلى السنة بما يظن أنه من عند الله ؛ فكوضع الوضاعين الأحاديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم ،أو إقامة ما يظن أنه حجة في الدين وليس بحجة.
وهذا الضرب من نوع أخلاق اليهود وذمها في النصوص كثير لمن تدبر في كتاب الله وسنة رسوله ثم نظر بنور الإيمان إلى ما وقع في الأمة من الأحداث.
وقال سبحانه عن النصارى : {يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى بن مريم رسول الله وكلمته}(النساء:171)،
وقال: {لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم}(المائدة:73) ،
 إلى غير ذلك من المواضع.
ثم إن الغلو في الأنبياء والصالحين: قد وقع في طوائف من ضلال المتعبدة ، والمتصوفة حتى خالط كثيرا منهم من مذاهب الحلول والاتحاد؛ ما هو أقبح من قول النصارى، أو مثله أو دونه.
وقال تعالى : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم }الآية(التوبة:31)، وفسره النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم -رضي الله عنه -بأنهم أحلوا الحرام؛ فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال؛ فاتبعوهم.
وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمره به وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال.
وقال سبحانه عن الضالين:{ ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله}(الحديد:27)،  وقد ابتلى طوائف من المسلمين من الرهبانية المبتدعة بما الله به عليم.
وقال الله سبحانه:{ قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا}(الكهف:21)،
 فكان الضالون بل والمغضوب عليهم يبنون المساجد على قبور الأنبياء والصالحين، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن ذلك في غير موضع حتى في وقت مفارقته الدنيا بأبي هو وأمي ثم إن هذا قد ابتلي به كثير من هذه الأمة.
ثم إن الضالين تجد عامة دينهم إنما يقوم بالأصوات المطربة والصور الجميلة ؛ فلا يهتمون في أمر دينهم بأكثر من تلحين الأصوات.
ثم إنك تجد أن هذه الأمة قد ابتليت: من اتخاذ السماع المطرب بسماع القصائد بالصور والأصوات الجميلة؛ لإصلاح القلوب ، والأحوال ، ما فيه مضاهاة لبعض حال الضالين.
وقال سبحانه : {وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء}(البقرة:113) ؛
فأخبر أن كل واحدة من الأمتين تجحد كل ما عليه الأخرى، وأنت تجد كثيرا من المتفقهة : إذا رأى المتصوفة والمتعبدة لا يراهم شيئا ولا يعدهم إلا جهالا ضلالا، ولا يعتقد في طريقهم من العلم والهدى شيئا ، وترى كثيرا من المتصوفة والمتفقرة لا يرى الشريعة والعلم شيئا بل يرى أن التمسك بهما منقطع عن الله وأنه ليس عند أهلها شيء مما ينفع عند الله.
والصواب أن ما جاء به الكتاب والسنة من هذا وهذا حق ،وما خالف الكتاب والسنة من هذا وهذا باطل.
وأما مشابهة فارس والروم: فقد دخل منه في هذه الأمة من الآثار الرومية قولا وعملا، والآثار الفارسية قولا وعملا ، مالا خفاء فيه على مؤمن عليم بدين الإسلام وبما حدث فيه.
وليس الغرض هنا تفصيل الأمور التي وقعت في الأمة مما تضارع طريق المغضوب عليهم أو الضالين، وإن كان بعض ذلك قد يقع مغفورا لصاحبه ،إما لاجتهاد أخطأ فيه، وإما لحسنات محت السيئات أو غير ذلك.
وإنما الغرض أن تتبين ضرورة العبد وفاقته إلى هداية الصراط المستقيم وأن ينفتح لك باب إلى معرفة الانحراف لتحذره "انتهي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

 #إحذر الظلم ! وتحلل ممن ظلمته اليوم ! فالأمر شديد ! أخرج الإمام أحمد في( مسنده)رقم ١٤٣٤ : بسنده عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ ، عَنِ...